حينما يصنعُ الدينُ التغيرَ الاجتماعي
إلى أي حد يمكن للتغير الاجتماعي أن يحصل عبر القيم والمعتقدات وعبر الثقافة بالمجمل؟ أبمقدورها حقا صنع التنمية؟ وما نصيب القيم الدينية في هذا الفعل التحويلي؟ إنه السؤال المركزي للتصور الفيبري برمته، والذي ظل مستبعدا من لدن الماركسيين، لأن الثقافة في حسبانهم مجرد انعكاس ميكانيكي للبنية الاقتصادية؛ والواقع لا يتغيّر بها بل العكس هي التي تتأثر بشروطه المادية. نحن إذن أمام تصور أصيل في فهم الحداثة وإحداث التغيير و بناء التنمية الاجتماعية، يعيد لمكونات الثقافة دورها الجوهري الذي اختزلته النزعات الماركسية في الإيديولوجيا أو البنية الفوقية.
يمثل المنجز الشهير لـ”ماكس فيبر” (1920_1864)، “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية”مساهمة قوية ورائدة، من الزاوية التي تهم طبيعة التغير الاجتماعي وربطه بما هو فكري وثقافي وديني تحديدا. وهو ينطوي على أطروحة مركزية تجسد صعود الرأسمالية الحديثة بأميركا الشمالية وأجزاء من شمال غرب أوربا فيما بين القرنين الـ16 والـ18، حيث سادت أشكال من المسيحية البروتستانتية المتجذرة في الكالفينية، والمتسمة بالزهد والانضباط الذاتي والعمل الدؤوب، كأخلاقيات شكلت أيديولوجيا دينية أطرت النظام الرأسمالي.
نشرت الدراسة سنة 1905، وفيها طبق فيبر قواعد منهجه الفهمي، مؤكدا قوة الرابط بين الاقتصاد والدين؛ ولئن سبقه إلى ذلك، سوسيولوجيون تأملوا الأسس الثقافية للمجتمعات المعاصرة –مثل إميل دو لافالي الذي أبرز أثر المذاهب على إنتاجية العمل، وتحديدا البروتستانتية، وأرنولد الذي ربط بين البيوريتانية والمؤسسة الاقتصادية الحديثة، وباكل الذي قارن بين البروتستانتية في اسكتلندا ودور الكاثوليكية في أيرلندا- فالفكرة الأساس لديه لخصها سؤال مفصلي: كيف لأساليب حياة دينية أن تحدد انبثاق المجتمع الرأسمالي؟ وهل ظهرت الرأسمالية فقط نتاجا للبروتستانتية؟
إن أهم ما يميز الرأسمالية حسب فيبر وجود مقاولات هدفها تحصيل أكبر قدر من الربح، ووسيلتها التنظيم العقلاني للعمل والإنتاج. فطابعها غربي يربط ما بين لذة الانتفاع والسلوك العقلاني، حيث إرادة التراكم اللامحدود تمر عبر تنظيم بيروقراطي دائم للتضامن بين مجموعة من الأفراد، يمارس الواحد منهم وظيفة متخصصة، لتصبح وجهة البيروقراطية هدفا لا ينفصل عن المبادئ العقلانية التي تتغيا تحقيق الفعالية. لكن ما الذي صنع هذا الطابع المميز للرأسمالية؟ الجواب لدى فيبر هو نوع من التأويل للبروتستانية؛ فكيف أمكنه التحقق من هذه الفرضية وصدقيتها؟
تبيّن إحصائيا بأن البروتستانت بألمانيا، هم الأكثر غنى وثراء بنسب تتزايد، كما لمس عيانيا مدى حضور الفكر الديني في السلوك تجاه القضايا والمشاكل، مما يؤكد صلة الدين بما يمارس واقعيا. ولمّا قارن بين عدة دول لفهم علاقة الدين بشكل الرأسمالية، تبيّن بما يكفي، من أن هذا الشكل الغربي لا يوجد في أيّ مكان، للتوافق مابين منطق البروتسنتانية وروح الرأسمالية. للرأسمالية روح، تجسدها ذهنية خاصة في التعامل الاقتصادي سيطبعها ويشجع عليها؛ ولفهم هذه الروح، استلهم خلاصة وثيقة شهيرة لبنيامين فرانكلان يقول فيها ناصحا “تذكر بأن الزمن هو مال (…) فبعد المثابرة في العمل والتقشف، لا شيء يساهم أكثر في ترقّي إنسان شاب في العالم، من الدقة والإنصاف في الأعمال”.
إن روح الرأسمالية، جسدتها أخلاق البروتستانت التي تفرض نفسها كواجب على كل فرد، للرفع من رأسماله كغاية في ذاته، وليس لمجرد الانتفاع. أخلاق ترى أن الله قدّر للأشخاص حياة خلاص أو عذاب، ولأن الفرد قلق لجهله بمصيره أسيتمّ إنقاذه أم تعذيبه، فإنه يبحث عن علامات انتقائه ونجاته بالاستثمار في العمل، حيث النجاح والثروة من علامات الانتقاء، فهو مدعوّ إلى العمل بغاية النجاح الإلهي في الأرض، استجابة لأمر إلهي ينتظر منه في هذا العالم وليس خارجه. هي تيولوجيا عقلانية إذن، لأنها بقدر ما تتضمن دعوة للاغتناء، تمنع إضاعة الثروة أو الإسراف في التمتع بها.
إن كون كل فرد لوحده أمام الله، يشجع تنامي النزعة الفردانية، ويجعل الإنسان “زاهدا في العالم”؛ فالعلاقة وطيدة بين النّسك وسلوك التقشف، ممّا يشي بأن للسلوكات الاقتصادية جذورا دينية، بفضلها تطال العقلنة الممارسات الاجتماعية على نحو دينامي ومستقل. بل إن إدارة المصالح الخاصة للفرد تتحكم فيها رؤيته للعالم، كما يرتهن السلوك الاقتصادي بهذه الرؤية، لتصبح المصلحة التي يضعها الفرد في نشاط ما، لا تنفصل عن نسق القيم أو عن رؤيته للوجود.
في قلب التغير الاجتماعي إذن توجد القيم أي ما يهب المعنى للفاعلين الأكثر تموقعا في التاريخ، و”مصدر التغير يأتي من الدين”. ولئن اعتبر ماركس بأن الرأسمالية ثورة مادية محددة بأصل الرأسمال، فإنها لدى فيبر محددة بروحها اللامادي، أي ثورة ثقافية. لكن النقد الذي يوجه له، أن هناك دولا كالفينية، غير أن الرأسمالية نمت فيها ببطئ شديد. وأخرى كاثوليكية كايطاليا لكنها كانت مزدهرة في القرن الـ15. فهل من تفسير للأمر؟
نشير أن فيبر لم يربط ميكانيكيا بين الرأسمالية والبروتستانتية، بل اعتبر أن أخلاقيات البروتستانت ساهمت في توليد نظام رأسمالي ومن ثمة إنجاز التغيير الاقتصادي والاجتماعي والثقافي العميق. ولعل استحضار فون هاكن يسمح بتصويب ملاحظتين: الأولى، أن فيبر لم يقل بأن التيولوجيا الكالفينية تكفي لتفسير شكل محدد للتنظيم الرأسمالي، والثانية أنه لا يدعم إيجابا، فكرة أن سيرورة التحديث وأهمية النموذج الأوربي منذ القرن الـ16، يجب بالضرورة الميكانيكية أن يكون مسبوقا بتحول في الأفكار الدينية.
لقد قدم المجتمع الرأسمالي مقارنة بأشكال التنظيم السابقة أو “التقليدية” بلغة فيبر لوحة كافية للحديث عن مفهوم “التجديد” بالمجتمع الأوروبي بدءا من القرن الـ17، حيث مثل العلم التجريبي وتنامي الاكتشافات وتطور علاقات التبادل والإنتاج وسيروة العلمنة، منابع جديدة لصنف المشروعية الموجهة للسلطة السياسية، كما أحدث السوق والتنظيم العقلاني للعمل قطيعة مع ما قبل، استلزمت مراجعة عقلانية للمعتقدات وتوجهاتها الأساسية، ومن ثمة إزالة الطابع السحري للعالم عبر تحويله إلى معطيات وأشياء. هو المفهوم الذي استعاره فيبر من ماكس شيللر، ومهدت له بالغرب الأوربي المعاصر، الثورة الإصلاحية البروتستانتية وتحديدا التطهيرية الكالفينية.
إن الدرس الهام الذي تمنحنا إياه الفيبرية، هو أهمية الدين في صنع التغيير عبر بلورة ممارسات واقعية ملموسة تنتج ويعاد إنتاجها واقعيا. ولا شك أن لهذه الأطروحة من الشواهد الواقعية ما يجعلها قوية ومقنعة، جماعات دينية مختلفة عبر مجموع العالم العربي والإسلامي، استطاعت نشر عقائدها الحركية وربح رهانات سياسية واقتصادية، بعدما حولت رأسمالها الديني إلى أرباح مادية. ولئن ظلت مجموعة من الاتجاهات التحليلية لا تستحضر الدين كعنصر تغيير ولا تلتفت لقدرته على الفعل والتعبئة، فالتصورات المعاصرة اليوم غيرت من نظرتها له ولقوته، لا سيما بعد سلسلة تحولات كان عنوانها دينيا أو كان للدين فيها دور بارز، بدءا بالثورة الإيرانية وانتشار المد الإخواني ثم السلفية بأنواعها والدعوية بامتداداتها الثقافية والإعلامية، مرورا بأحداث ما عرف بـ”الربيع العربي” وصعود الإخوان إلى السلطة بمصر ودول عربية أخرى، دون أن ننسى ظواهر “الإرهاب الديني” والمجموعات القتالية العديدة بثقافتها الجهادية… الخ.
لقد بات واضحا أن مراجعة الطروحات الفكرية الكبرى وتنسيبها عجلت بالعودة إلى الدين معيارا للفهم والتحليل، وذلك لتفكيك المرجعيات الفكرية الجديدة والثقافات الحاضنة للمجموعات والجماعات المشار إليها، بل يتم اليوم وبقوة، ربط الدين بمشاريع التنمية والتغيير الاجتماعي والثقافي. لذا فلا مندوحة عن استلهام أفكار فيبر لراهنية أطروحته، في مجالات الاقتصاد والسياسة وعلم الاجتماع والتنمية ولا سيما بالنسبة إلى مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
سبق لفرنسيس فوكوياما أن أفاد من تصوره حول الامتياز الاستثنائي للثقافة الغربية؛ ففي مؤلفه “الثقة” وعبر مفهوم الرأسمال الاجتماعي انتبه لأهمية الرصيد المتوارث من قيم وأخلاقيات ودرايات مكتسبة ومتناقلة داخل الأسرة والمجتمع، يتم التوافق عليها والتعامل بها لأجل أهداف مشتركة للجماعات وللتنظيمات. فليس السلوك الاجتماعي اعتباطيا بل قصديا ومرتبطا بمصلحة؛ وكلما كان مستندا إلى رأسمال اجتماعي، كان أكثر مصلحة وأكثر عمقا. أما عن “الثقة” فهي تؤسس لشرط حيوي في الاقتصاد؛ ولئن كانت التقليدية منها تقوم على الأسرة والعشيرة، فالثقة المؤسّسية قيمة اجتماعية تتجاوزها إلى الشركات العملاقة والمؤسسات الكبرى التي وجدها فوكوياما بكل من أميركا واليابان.
ختاما، نؤكد أن أهم ما يمكن استخلاصه من التصور الفيبري أن معادلة الحداثة واقتصاد السوق والديمقراطية لا يمكن التفكير فيها خارج الدور المركزي للقيم. فإذا كانت الرأسمالية قد أوجدت الثروة فالفضل عائد في ذلك للقيم الثقافية والدينية والبروتستانتية تحديدا، لأنها أرست ملامح العقلانية الاقتصادية والحداثة الديمقراطية من الداخل. بهذا فهو طرح يقلب تصور ماركس كليا حول مفاهيم أساسية كالأيديولوجيا. فإذا كان الدين بالنسبة إلى ماركس مجرد أيديولوجيا، فإنه لدى فيبر يولّد نظاما اقتصاديا واجتماعيا متكاملا، بل بمقدور هذه الأيديولوجيا الدينية ذاتها أن تكون محركا للتغير الاقتصادي والاجتماعي والثقافي المأمول.
تابع مقالات الملف: