إشكاليّة صورة اليهودي في النقد الروائي العربي

السبت 2020/02/01
لوحة: بسام الإمام

في الملف الذي أعدته مجلة “الجديد” الغراء غطت الكتابة عن صورة اليهودي في الرواية هذا المضمون خلال قرن أو أكثر، كما فعل الناقد ممدوح فراج النابي في دراسته “تمثّلات اليهودي في الرّواية العربيّة من القطيعة إلى أوهام العيش في جيتو فاضل (قراءة في نماذج روائيّة)” فجاءت الدراسة بيلوغرافيا موسعة، مؤرخة لحقبة زمنية طويلة ظهر فيها اليهودي في مجموعة كبيرة من الروايات العربية، منذ عهد الريادة الروائية إلى وقتنا الحاضر، كضرورة بنيوية، تطلبها الطرح الواقعي الفوتغرافي الذي اتسمت به الروايات العربية الأولى، وإلى فترة متأخرة من الستينات، والتي كان فيها اليهود يمثلون شرائح مهمة تسيطر على الاقتصاد في الدول العربية، ومعظم الشركات الأجنبية، التي اعتمدها الإنكليز والفرنسيون في إدارة مشاريعهم في مستعمراتهما العربية.

وبعد الستينات إذْ بدأ تيار جديد في كتابة رواية عربية مؤدلجة، طوّعت الكتابة الأدبية لأغراض الحشد التعبوي في الصراع ضد الاستيطان الصهيوني على أرض فلسطين، وتكوين دولة إسرائيل. وقد حاول الناقد أن يوصل رسالة مفادها: أن الروائي العربي قبل الستينات كان منحازاً للصورة النمطية التي تداولها مواطنو هذه الدول عن شريكهم اليهودي في الوطن، والتي رسمت أطر التعامل معه معتقدات دينية وعقائدية.

وذكر الناقد فراج ذلك بقوله “الطبيعة الإشكالية للشخصية اليهودية، التي تتعدد إشكالياتها، أولا لعلاقتها بذاتها وبمقدراتها الشخصية، وهو ما يدفعها إلى تحديد نمط معين من التعامل، وثانياً، لعلاقتها بجماعة اليهود، وقبول تصرّفاتها أو إدانتها، ومن جهة ثالثة علاقتها بالآخر، والآخر هنا رديف للعربيّ المسلم، وما تمثّله طبيعة العلاقة الصراعية المتوارثة من التاريخ، من ثنائيات تتراوح بين القطيعة والاعتراف، أو الاندماج والانفصال.

أسماء مهمة

طوال القرن الذي بدأ فيه التعرف على هذا الفن الأدبي الجديد، الذي ولجه كتاب عرب، واعتبروا رواداً في هذا اللون الأدبي، فقلَّدوا كتاباً غربيين في الكتابة عن بنيات اجتماعيّة في الوطن العربي، من مكوناتها ديانات مختلفة وإثنيات وقبليات سواء من مواطني البلد الذي يعيشون فيها منذ القديم أو من جاؤوا من بلدان أخرى بحكم الهجرة والتجارة والصناعة والتبشير الديني، ومن بنيات المجتمع العربي الطائفة اليهودية، التي كانت تمثل منذ بداية القرن الهجري الأول بنية اجتماعية مهمة سواء في الجزيرة العربية أو في أنحاء مناطق مدينية في ذلك الوقت، كدمشق وحلب وصنعاء ويثرب وشمال أفريقيا. وقد اشتهر الكثير منهم بمهارته التجارية أو في الصرافة، والمعاملات المالية، والطب والفلسفة، كموسى بن ميمون الفيلسوف المعروف، وماسرجيس الطبيب والمترجم اليهودي في القرن الهجري الأول، وابن أثال الطبيب الخاص لمعاوية بن أبي سفيان مؤسس الدولة الأموية.

وهناك أسماء مهمة صنعت تاريخاً في الأمم التي عاشت فيها، وقد انتبه لهذه الثيمة التاريخية، وفي رسم صورة راسخة لها، الناقد عبدالله إبراهيم من خلال الموضوعة التي لم يتطرق لها باقي النقاد في مجموعة النقود، التي جاءت في الملف في دراسته “بابل الثانية ــ الهوية الملوّثة في الرواية اليهودية المكتوبة بالعربية”.

وبالرغم من أنه استخدم طريقة عكسية في طرح صورة اليهودي في الرواية العربية، إلا أنها كانت مؤدية للغرض المطلوب ذاته، فجاءت دراسته عن اليهودي العربي الذي كتب رواية عن شركائه في الوطن.

اليهودي الذي أجبرته حكومته على المغادرة إلى وطن آخر بديل، معتبراً ذلك الوطن البديل منفى، حتى لو كان لذلك البديل له مسمى إسرائيل، الذي اعتبره الكثيرون الوطن القومي لليهود، كما نعته بلفور وزير خارجية بريطانيا في بداية القرن التاسع عشر بوعده المشهور.

وأورد الناقد عدة نماذج لروايات وقصص كتبها يهود، كسمير نقّاش، سامي ميخائيل، نعيم قطّان وسامي ميخائيل. وقد استخدم الناقد الملمح التاريخي للوجود الأصيل لليهود في المجتمعات العربية، وفي العراق خصوصاً.

فقال عن ذلك “لوّثتْ لهجة اليهود من طرف لهجة البدو المسلمين، هذا أمر مزعج لليهوديّ الذي يجد نفسه عريقًا في انتسابه التاريخيّ للعراق، فيما البدو مجرد جماعة طارئة حديثة العهد فيه”.

إن النظر للإشكالية المطروحة في الملف، أن النظر لا يتم إلى صورة اليهودي في الرواية العربية بل المفروض أن ننظر إلى صورتنا كعرب في ما كتبه الروائي العربي اليهودي عنا. والنظر إلى ما أنتجه من أدب روائي وقصصي من خلال رؤية عميقة إلى أنه مواطن أصيل انتزع من وطنه غصباً، وكان ضحية لأديولوجيات سياسية لا يد له فيها.

انتفاضة الفلاشا

أكملت الصورة النقدية التي رسمها الناقد إبراهيم، الناقدة أسماء معيكل من خلال دراستها “اليهودي الأسود مواطن من الدرجة الثالثة في رواية أريتيرية”. تناولت فيها رواية “رغوة سوداء” للكاتب الأريتري حجي جابر، وقد عرّت الرواية واقع اليهودي حينما يكون أسود البشرة، إذْ دمجت بين هجرة اليهود من القرن الأفريقي إلى إسرائيل، والتمييز العنصري على قاعدة اللون.

فتقول معيكل “ليس كل اليهود شعب الله المختار، كما تروّج الدعاية اليهودية. وحينما يكون اليهودي أسود اللون، فهو مواطن ولاجئ من الدرجة الثالثة، منبوذ ومرفوض رفضاً كلياً من بعض اليهود، لا يقبل دمه، ويعد ناقلاً للأوبئة مثل الإيدز، ويشّكك في دينه، ويخضع لإجراءات تهويد مُتشدّدة، ولا يسمح له بالعمل سوى في وظائف محددة، إضافة إلى عزله للسكن في أحياء خاصة بالسود”. تذكرنا الرواية بانتفاضة الفلاشا -اليهود السودـ في إسرائيل في يوليو من سنة 2019 عقب قتل ضابط شرطة إسرائيلي أبيض ليهودي من أصول أثيوبية في ضاحية كريات حاييم في حيفا.

تقول معيكل “يسرد الكاتب في رواية ‘رغوة سوداء’ قصة ‘داويت’ الذي وصل إلى معسكر ليهود الفلاشا في أثيوبيا؛ ليخوض غمار رحلة الانتقال إلى أرض الميعاد بوصفه يهودياً. والراوي الداخلي الذي هو بطل الرواية نفسه داويت، الذي يتحول فجأة إلى سارد ماهر للحكايات، ليكشف لنا عن ماضيه وتحولاته، وما بين تولي الراوي الخارجي لمهمة رحلة الوصول إلى أرض الميعاد، “ليكشف لنا عن معاناة اليهود الأفارقة أصحاب البشرة السوداء، والتمييز العنصري، الذي مورس ضدهم في إسرائيل، والنظر إليهم على أنهم مواطنون من الدرجة الثالثة، بل عدم الاعتراف بهم، وخيبة أملهم بأرض الميعاد التي فرّوا إليها”.

وتصل الناقدة إلى نتيجة مرادفة لما وصل إليها عبدالله إبراهيم، وإن كانت لأسباب مختلفة، غير الأدلجة السياسية أو الدينية بل هي معاناة من لون آخر تقول عنها “معاناة أصحاب البشرة السوداء أينما حلّوا، والانتقاص من شأنهم بغض النظر عن دينهم أو وطنهم أو انتسابهم، فلون بشرتهم كفيل بلفظهم بعيدا عن أيّ مكان في العالم، وعدم قبولهم ودمجهم في مجتمعات تدّعي العدل والمساواة وعدم التمييز العنصري”.

 نمطية عالمية

لوحة: بسام الإمام
لوحة: بسام الإمام

في دراسة الناقد زياد الأحمد “تحوّلات الشخصية اليهودية في الرواية العربية ــ ملامح ورؤى” ينقلنا الناقد إلى إشكالية الصورة النمطية لشخصية اليهودي في العمل الأدبي، التي تذكرنا بنماذج لا نزال منذ الطفولة نتذكرها بكل قبحها، وسوء طويتها، كشخصية شايلوك في مسرحية تاجر البندقية لوليم شكسبير، والشيخ مربي اللصوص الأطفال والمراهقين “فاجن” الذي جمع كل أنواع الشر والخداع في شخصيته في رواية “أوليفر تويست” لتشارلز ديكنز.

وقد عززت هذه الصورة النمطية العالمية ما توارثه العرب من قصص، وسلوكات تعزى لعدد من اليهود، علق عليها الناقد بقوله “ساهمت عوامل تراثية دينية متنوعة، وأدبية عالمية، قبل العربية، إضافة إلى عوامل سياسية في تنميط صورة الشخصية اليهودية، ورسمها بملامح فرضتها سلوكياتهم التي انعكست في مرايا الآخرين. ففي قصص التراث الديني قامت تلك الصورة على غدر اليهود، وقتلهم حتى لأنبيائهم، ثم معاداتهم للمسيحية وغدرهم بنبيها، ومن بعدها تفرغهم لحبك الدسائس والمؤامرات للإيقاع بالإسلام والمسلمين”.

ولكن ثمة انفراج في نقل صورة اليهودي في الرواية والشعر العربي بعد اتفاقية كامب ديفيد، ويعزو الناقد هذا الانفراج إلى دعوات التطبيع مع دولة إسرائيل، خصوصاً أن أكبر الحركات الفلسطينية المسلحة كمنظمة فتح، قد وقعت على هذه الاتفاقية. مما أعطى بعض الأصوات حرية للدعوة للتطبيع. يشير إلى هذه الحقيقة بقوله “يتساءل البعض عن سر هذا التحول في رؤيا الرواية العربية للشخصية اليهودية، وينسبه البعض إلى أنه نتيجة لاتفاقية كامب ديفيد واتفاقيات أوسلو وبعضهم يرى فيه دعوة إلى التطبيع مع العدو الصهيوني. ونرى أن هذا التحول كان أقرب إلى الموضوعية؛ من خلال رصده الشخصية اليهودية الموسوية كمكوّن من مكونات المجتمع العربي، والنظر إلى القاسم المشترك الإنساني الذي يوحده به”.

وهذا بدوره تصحيح موضوعي لصورة اليهودي في العمل الأدبي العربي، وساهمت هذه النظرة الموضوعية إلى تغييرات إيجابية في الشخصية العربية، لكنه لم يوضح علاقة هذا التغيير الإيجابي بشخصية المواطن العربي العادي، المواطن الذي لا يقرأ الرواية، ولا يهتم مطلقاً بما تقوله النخبة من الروائيين العرب حول شخصية اليهودي في رواياتهم. لكنه أشار إلى تصحيح رؤية العرب لليهود أمام العالم، من خلال تأكيده على التفريق بين اليهودي الموسويّ، الذي لم يكن يوماً عدواً بل هو مواطن من ضمن مواطني المجتمعات العربية، والصهيوني العدوّ المحتل الذي أراق الدماء وشرَّد الشعب الفلسطيني، ودحض دعاوى الصهيونية بهمجية العرب وبداوتهم ورفضهم للآخر.

وثيقة أدبية

في دراسة وارد بدر السالم “حمّام اليهودي السيرة الكربلائية ليهود العراق"، التي تناولت رواية علاء مشذوب الروائي العراقي، الذي اغتالته الميليشيات المنفلتة في العراق، لكونه كان كاتباً حراً، كتب بضمير المثقف العراقي المخلص لوطنه، وقد كتب روايته التوثيقية عن ذلك الحمَّام، الذي أقامه يهودي في مدينة كربلاء المدينة المحكومة بالعقائد الدينية والطقوس الخاصة المعروفة منذ عشرة قرون أو أكثر. والتي لم يستجب سكانها لنداءات الاستحمام في حمَّام اليهودي، بسبب ما يعتقدونه من محرمات عقائدية.

رأى السالم أن لا صراعات في الرواية، ولكن الصراع الحقيقي يكمن في وجود حمّام يملكه يهودي، لما يعنيه الحمَّام في عقيدة أهل كربلاء، كمكان للتطهير من النجاسات، ويبدو أن مرامي ذلك اليهودي في بداية القرن التاسع عشر إما أن تكون بريئة لحدّ السذاجة أو بعيدة الغور في مراميها، للتطبيع بين العقيدة الموسوية والإسلام.

وهدف إلى محو، ما تعارف عليه الوسط الكربلائي من تراث تحريمي وطقوسي، يخصُّ أهل الديانات التوحيدية كالمسيحية واليهودية.

إن يعقوب أفندي نجح في إقامة متجره للمجوهرات والمصوغات الذهبية في المدينة، لكنه لم ينجح في تجاوز حدود المحرمات العقائدية بالرغم من حرصه على المشاركة في المعازي الحسينية.

يعقوب اليهودي أثبت للمجتمع الكربلائي أهمية هويته العراقية قبل هويته الدينية، وبالمناسبة أن أغلب اليهود العراقيين في اسرائيل أو في الدول أوروبية أو في أميركا تغلب عليهم هويتهم العراقية قبل هويتهم الدينية. ويبدو أن أهل العراق بمختلف دياناتهم وعقائدهم، تغلب عليهم هوية الانتماء إلى العراق أكثر من الانتماء إلى الدين أو المذهب أو الطائفة.

وتناول الناقد والروائي إبراهيم الجبين، التنميط في شخصية اليهودي في العمل الروائي من خلال إجابات محدَّدة لعدة أسئلة طرحها على نفسه، أوردها كالأتي “لماذا تم تصوير اليهودي في الرواية العربية بتلك الصورة؟ وفي أحسن الأحوال؛ لماذا تم تجنب تصوير اليهودي كبطل اعتيادي من أبطال المشهد الروائي داخل النص مثله مثل غيره من الأبطال المنتمين إلى عقائد أخرى؟ من هنا يبدأ السؤال، وليس من بعد أن قرر الروائيون العرب التجرؤ علـي المحظور، وتقديم يهود في أعمالهم بطريقة مختلفة”. وللجبين تجربة متميزة في كتابة رواية عن شخصية اليهودي”إخاد” في “يوميات يهودي في دمشق” وقد وضع نصب عينيه، وهو يكتب عن شخصيات روايته، كإخاد وراحيل أخت إخاد وزينب في الحارة المنثية بدمشق، المسلمات التي أوردها بتأكيده على “إن الواقع الحار المحيط بك، والتزامك بنقل أدق تفاصيله إلى قارئك جعل من ظهور هؤلاء اليهود أمراً يشبه اكتشاف المنحوتة الجديدة بين يدي النحات، الذي يتعامل مع صخرة دون فكرة. وكما كانوا في الحياة بسياقهم الطبيعي، صاروا في الرواية في سياق طبيعي”. وقد أنسن صورة هذا اليهودي في دراسته ناقداً لأحداث وردت عن يهود في نماذج روائية عربية مختلفة المأرب عقائدياً وأيديولوجيا.

ما سلف مجرد استعراض وبعض الملاحظات لهذا الملف غير المسبوق الذي قدمته مجلة “الجديد” لقرائها عن صورة اليهودي في الرواية العربية وجاء ملفاً جامعاً، ووثيقة أدبية لا غنى عنها لكل مبدع عربي اهتم بالكتابة الموضوعيىة عن مكونات المجتمعات العربية الدينية والقومية، وقد أنصف كتاباً أبدعوا في الكتابة عن شخصيات يهودية أغنت الأعمال الروائية بوجودها، ومشاركاتها لأبطال آخرين من ديانات وأرومات مختلفة، وينتمون إلى الأوطان ذاتها.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.