الخصوصيّة والرقابة في العالم التفاعلي
بات مفهوم الخصوصيّة وانزياح جدرانها، على غرار مفاهيم أخرى في العالم التواصلي – التفاعلي المعاصر، منفتحًا على ظاهرة هدم الحدود بين الثنائيّات الضدّية، وتداخلها وروغانها من أي تعيين. وما فهمهما في عالم يُعاد تشكيله بصورة دائبة، إلا محاولات للخلوص إلى رسم ملامح وجه، لا تحيط بدقائقه. ربما يبدو الأمر متاهة أسئلة، أو ضياعًا للحدود الفاصلة، وقد اعتاد العقل العلمي في العصر الحديث فهم محيطه من خلال الحتميّات وصرامة التعريفات. إنّما دائمًا ما يأخذنا أيّ ارتباك إلى «الفارماكون» – عقار فيه السمّ والترياق معًا ـ والذي غدا مصطلحًا تفكيكيًّا واصفًا لأيّ حالة تتضمّن وجهيها النقيضين؛ وتقدُّم وجه على آخر رهن بالكيفيّة والنسبة. نحن إذن في عالم نسبيّ بامتياز؛ والنسبيّة لا تعدل الفوضى والتعمية.
كما أنّ أيّ ظاهرة لها تمثّلاتها الاجتماعيّة، وتتجلّى في فضائها حركة التشابك بين الخاص والعام، والتناوب بين الذاتيّ والموضوعيّ، بحيث تحدث في إطارها تحوّلات في البنى الفكريّة والتصوّرات والأمزجة والسلوكيّات، لا مناص من تعدّد قراءاتها الممكنة، عبر الدخول إلى عالمها من منافذ متعدّدة في العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة. والمدخل السوسيونفسي كما الوجودي يغدوان حاجة في التأويل، بوصفه فنّ فهم التجربة الإنسانيّة واختبارها، خصوصًا لدى اقتران مبدأ الخصوصيّة، وإشهارها عبر الوسائط الاجتماعيّة، بمفاهيم على شاكلة الوحدة وفكّ العزلة، والأنا الأعلى، والأنا المثالي، ومركزيّة اللوغوس / الرقيب، ودوافع التماهي والنرجسيّة والحريّة.
ولفهم هذا التداخل بين عالم الجالس أما الشاشة الزرقاء، وعالمها، يحضرني تشبيه «الهيكل» – المعبد – وهو انعكاس لعالم إلهي متخيّل. إذ أنّ عمارته تدلّ على الصورة التي يتمثّلها البشر بخصوص الإله المعبود المقام لأجله هذا المعبد. ويبدو كأنّه جواب أرضيّ عن أسئلة سماويّة قديمة. وتأويل الهيكل أنّه صورة العالم الصغير والعالم الكبير معًا؛ فهو إذن الإنسان والعالم. هكذا، فإنّ مستخدم وسائط التواصل الاجتماعي لنشر ما يخصّه من أفكار ومعتقدات، وصور توثّق مناسباته، وإن بدا وحيدًا أمام شاشته / صندوقه الأرحب، فهو غير معزول عن العالم الخارجيّ؛ منفصل – متّصل به، متفاعل ومشارك، وليس متلقيًا أو قابعًا في صورة سالبة.
إنّما يطرح هذان الاكتظاظ في الوجوه والأسماء، والسيل في المنشورات أسئلة الدافع، والقيمة المرجوّة، والضابط لهذا الدفق. أتذكّر في هذا المقام عنوانًا لمقال مفاده «أبطال بغير بطولة». فأنا أنشر صورة أو كلمة، إذن أنا موجود. ثمة تهافت، في هذه الحالة، على تأكيد الوجود في زمن التباس الهويّة واضطراب الانتماء وتزعزع الثقة بالذات؛ إنه الوجود بغير «حضور» بمفهوم وجودي. هذا الفضاء كما يتيح حرّية النشر، فهو يسمح أيضًا بحريّة النقد.
في كتابها «العلم والاغتراب والحرية» – مقال في فلسفة العلم من الحتمية إلى اللاحتمية – ترى يمنى طريف الخولي أنّ عوامل البيئة والدوافع السيكولوجية لا تحرّكنا كما تحرّك الخيوط الدمى، بل تطرح احتمالات ما للسلوك المعيّن في الموقف المعيّن. وقصارى ما تفعله أن تجعل لواحدة من الإمكانيات احتمالية أعلى من سواها. فليس ثمة حتمية لا فرار منها. وتشير إلى أنّ دور المحيط يتأكّد بقدر ما ينصبّ على الدور الذي يمارسه كلّ من أعضاء الأسرة في شبكة التفاعلات العلائقيّة اللاواعية.
كما توضّح كيف تدخلت مقولة الحرية في العلوم الإنسانية المعاصرة. فالصراع بين العلم والحرّية الإنسانية قد أصبح مرحلة قابعة في التاريخ.
يتعامل علم النفس مع واقعة الاختيار وظاهرة الحرية الإنسانية. ويبقى القول قاصرًا إذا لم نعد إلى دوافع التماهي وجذور حبّ الظهور والتعبير عن الذات؛ لاسيما أنّ العالم التواصلي الإلكتروني يبدو مساحة جذب ممتازة لتعزيز النرجسيّة – وهي الحبّ الموجّه إلى صورة الذات – والتماهي البطولي بأشخاص قد يراهم المستخدِم خارقين وذوي شهرة عريضة، فيسهمون في تشكيل «الأنا المثالي» لديه.
ويجد هذا التكوين أصله في مرحلة من مراحل التكوين النفسي للكائن البشري، تُدعى «مرحلة المرآة». هذه المرحلة، بتعريف جاك لاكان تعني إدراك الصورة الذاتيّة في المرآة، وتتّضح في التماهي بصورة الشبيه باعتباره شكلًا كلّيًا؛ حيث تظهر بوادر تشكيل «الأنا» في ما بعد. كما تتطابق مرحلة المرآة مع إطلالة النرجسية الأولى. في صورته الذاتية المرآوية، يبتهج إذ يتماهى بهذه الصورة. وهذا ما يعنينا في فهم أبعاد موضوعنا: البهجة التي يحدثها نشر الخصوصيّة، وتاليًا ما يقوّي النرجسيّة في سلسلة التماهيات الواعية واللاواعية.
إنّما ثمة ضابطان داخلي وخارجي لحركة الإشهار الإلكتروني؛ يعود الأوّل إلى مفهوم «الأنا الأعلى»، وهو بمثابة ركن يجسّد القانون ويمنع اختراقه، ويتماثل دوره مع دور القاضي أو الرقيب تجاه «الأنا».
في الضمير الخلقي، وملاحظة الذات، وتكوين المُثل العليا، بعض من وظائف الأنا الأعلى. وهو لا يتكوّن لدى الإنسان على غرار صورة الأهل، بل إنه يتكوّن فعليًّا على غرار صورة أناهم الأعلى هم أنفسهم؛ فيصبح ممثل التقاليد وكل الأحكام التقويمية التي تستمر خلال الأجيال على نحو ما. والضابط الثاني – الخارجي – يرتبط بما تبيّن في المفهوم السابق، ويأتي على صورة القسر والرّدع في المجتمع الأبويّ، وإن تغيّر شكل العلاقات الاجتماعيّة. في كلا الحالين، نجد أنّ حرّية الفرد مقيّدة ومحكومة بمنظومات تقويميّة عليا.
في المجتمعات التي تُحكم إغلاق دائرة العائلة – الصغرى والكبرى على حدّ سواء – توكل مهمة الرقابة إلى الأخ الأكبر بعد الأب، فضلًا عن سيادة مفهوم «المَونة» بالعاميّة بين أفراد القرية / القرى، أي حقّ الكبير بالنصح والإرشاد وتقدير الأصغر لمشورته وتقبّل لومه وربما تعنيفه، والإذعان له؛ وهو نظام بدأ يتفكّك شيئًا فشيئًا، ويُرفض في أوساط الجيل المعاصر، ليجد نظام «التفاعل المتفرّد» مع المحيط الأرحب مكانًا له يتوسّع باطّراد. إنما التجاور والالتباس سمة العصر، وما نخاله حرّية في رفض تدخّلات الأقربين، ليس بالهيّن الحكم عليه بصورته الحاليّة.
لعلّ مقولة الأخ الأكبر ووصايته تعيدنا إلى اسمين بارزين في تاريخ البشرية، هما قايين (أو قابيل) أخو هابيل ابنا آدم وحوّاء، وهارون أخو موسى (عليهما السلام) ابنا عمران، وقد مثّلا حالتين نقيضتين. قايين (المقتنى) مثال الأخ الأكبر الحاقد والحسود، وحيث أدى أخوه الأصغر دور الناصح والهادي. وبحسب الرواية، فإنّ الله لم يقبل أضحية قايين وقبلها من هابيل، لتتولّد الغيرة والضغينة في قلب الأخ الأكبر فيعزم على قتل أخيه. حمل ردّ هابيل على أخيه نصحًا وإرشادًا؛ حيث بيّن له الوسيلة التي تجعل صدقته مقبولة عند الله. ثم انتقل من حال وعظ أخيه بتطهير قلبه من الحسد إلى تذكيره بما تقتضيه رابطة الأخوة من تسامح (لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني، ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك). ثم انتقل إلى أسلوب آخر في وعظ أخيه؛ إذ أخذ يحذّره من سوء المصير إن هو أقبل على تنفيذ فعلته.
أمّا ما جاء في حكاية موسى وأخيه الأكبر هارون؛ فقد عاشا في مصر في عصر فرعون، كان هارون معينًا لأخيه موسى، ثقيل اللسان، حين أراد أن يبعثه إلى فرعون لدعوته إلى الإيمان (ربّ اشرح لي صدري، ويسّر لي أمري، واحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي، واجعل لي وزيرا من أهلي، هارون أخي، أشدد به أزري وأشركه في أمري). لذا كان هارون متحدّثًا باسم موسى (أخي هارون هو أفصح مني لسانًا).
هكذا، فإنّ المثال الأول يظهر التناقض بين ما ساد في المستوى الاجتماعي لاحقًا بتقديم الكبير وصيًّا، وبين مقولات العالم الروحي – الإيماني البعيد عن تصوّرات الزمن المادي (نتذكّر في هذا المقام قصة يوسف مع إخوته، وتكريمه بالنعمة الإلهيّة وفق المعتقدات السماويّة). ولفهم الحاضر في ضوء هذا التراث، ندرك رفض انصياع شاب فتيّ لراشد، باعتبار أنّه أوسع معرفة تقنيّة منه، وأكثر مرونة في التعامل مع أدوات عصره، مسقطًا أسس منظومة اجتماعيّة سادت ردحًا من الزمن، ليعلي من شأن الصديق باقتراحاته وتنبيهاته في علاقة تسودها نديّة ينتفي معها السلوك الفوقي – السلطوي.
بالعودة كذلك بالأمر، إلى التراث الأدبي، نلقى خير مثال عن الصداقة الفاعلة، صداقة أنكيدو لجلجامش في الملحمة البابليّة؛ فنفقه العبرة من التحوّلات التي أصابت جلجامش على مستوى تصوّراته ومساعيه جرّاء موت أنكيدو الذي أضحى صديقه بعد منازلة وعداء. فماذا عن صداقات هذا الزمان، والأدوار المنوطة بها، خاصة في ساحة التفاعلات الإلكترونيّة وسرعة الانتشار؟ وهل خرج المرء حقًا من عباءة الأخ بوصفه معنّفًا ووصيًّا وناصحًا؟
المراقب لصفحات الفيسبوك وما يتمّ من تعليقات على المنشورات، يعرف تمامًا أن ثمّة رقابة كامنة تمارسها شريحة واسعة من الأصدقاء، وتتراوح حدّتها بين إعجاب / لاإعجاب في إبداء الرأي، لتصل إلى حدّ التنمّر والعنف الفيسبوكي.
والشكل الإقصائي الجديد أو المحاسبة يتمثّلان في «البلوك» على صديق قد يكون ذا صلة معرفيّة في الواقع بصاحب الصفحة. لعالم المعلوماتيّة جرائمه وقوانينه، وقد تكون أشدّ فتكًا من سطوة الأخ في المجتمع الأبوي المغلق، والذي يحاول لملمة الخطأ لتفادي تعاظمه وافتضاحه، وتنجية قريب الدم من ألسنة اللوّامين والمتربّصين بهما، بوصف ما يصيب أحدهما من مهانة يمسّ الآخر حكمًا. بل إنّ دائرة المعارف كلّما اتّسعت بات الخطأ أكثر مفضوحيّة، وبالإمكان أن يودي بصاحبه إلى طلب العزلة أو القيام بالانتحار في أقصى الحالات مأساويّة. عليه، فإنّ من غير العلمية وصف شبكة وسائط التواصل الاجتماعي بالافتراضيّة.
في عالم التماهيات والإكراهات لا ذوبان أو تغييب للشخصية، وليس من حريّة مطلقة، بل ممكنة. وفي العصر اللاحتمي التعدّدي – كما تذهب يمنى الخولي – يظل الجُسيم المنفرد يحتفظ بشيء من الفردانية داخل القانون. إذ أنّ لاحتميّة العلم المعاصر تجعل كل حدث احتماليًّا بنسبة معيّنة. ولما كانت بدائل الأحداث قائمة، فإنّ حرية الإنسان كائنة. إنما الحرية ليست كيانًا أهوج مجنونًا، فنتصوّر عالمها اللاحتمي عماء وخليطا من فوضى. الحرية الإنسانية تعني إمكانية الاختيار بين بديلين أو أكثر. فلنا إذّاك، أن نقنّن ما ننشر ونحدّد من يرى ومتى، وأن نبقى في جهوزية لتلقّي أيّ ردّ فعل من عين ترصدنا باستمرار!
مقالات الملف:
- الذات الخارجية أم ثرثرة بصرية
- ما بعد الخصوصية
- التبرع بالخصوصية يعيد رسم مهام الأخ الأكبر
- من يحكمنا الآن؟
- ما الذي سيراقبه الأخ الأكبر الآن؟
- المجتمعات الافتراضية
- وماذا بعد أن يصبح الإنسان مشاعًا؟
- انتحار الخصوصيّة
- شهوة الحضور وانفجار المكبوت
- السوق الرقمية
- هل يمكن صون حياتنا الخاصة في عصرنا الرقمي؟
- الإثم والمنافع
- حدود الخصوصية اليوم
- "الأخ الأكبر" حي فينا
- الْعَارِي لَا يُعَرَّى
- قبائل ثقافية في العصر الرقمي
- عصر الشركات العملاقة
- حربٌ من أجل استقلال الذات
- صناعة الاعتراف
- “مَشْيَخة” الميديا الجديدة
- المراقبة كوسيلة للتآخي الكوني